فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ}
قيل: لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب واضرابهم ولذلك لم يقل: وقالوا،: {لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا} وجوز أن يكون المراد بهم أهل الحل والعقد الذين لهم قدرة على الإخراج والإدخال، ويكون ذلك علبة للعدول عن قالوا أيضًا، و: {أَوْ} لأحد الأمرين، ومرادهم ليكونن أحد الأمرين إخراجهم أو عودكم، فالمقسم عليه في وسع المقسم، والقول بأنها بمعنى حتى أو إلا أن قول من لم يمعن النظر كما في البحر فيما بعدها إذ لا يصح تركيب ذلك مع ما ذكر كما يصح في لألزمنك أو تقضيني حقي، والمراد من العود الصيرورة والانتقال من حال إلى أخرى وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، فيندفع ما يتوهم من أن العود يقتضي أن الرسل عليهم السلام كانوا وحاشاهم في ملة الكفر قبل ذلك.
واعترض في الرفرائد بأنه لو كان العود بمعنى الصيرورة لقيل إلى ملتنا فتعديته بفي يقتضي أنه ضمن معنى الدخول أي لتدخلن في ملتنا.
ورده الطيبي بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان: {فِى مِلَّتِنَا} صلة الفعل إما إذا جعل خبرًا له لأن صار من أخوات كان فلا يرد كما في نحو صار زيد في الدار.
نعم يفهم مما ذكره وجه آخر وهو جعله مجازًا بمعنى تدخلن لا تضمينا لأنه على ما قرروه يقصد فيه المعنيان فلا يدفع المحذور.
وفي الكشف إن: {فِى} أبلغ من إلى لدلالته على الاستقرار والتمكن كأنهم لم يرضوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم، وقيل: المراد من العود في ملتهم سكوتهم عنهم وترك مطالبتهم بالإيمان وهو كما ترى، وقيل: هو على معناه المتبادر والخطاب لكل رسول ولمن آمن معه من قومه فغلبوا الجماعة على الواحد، فإن كان الجماعة حاضرين فالأمر ظاهر وإلا فهناك تغليب آخر في الخطاب، وقيل: لا تغليب أصلًا والخطاب للرسل وحدهم بناء على زعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة كقولفرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين} [الشعراء: 19] وقد مر الكلام في مثل ذلم فتذكر: {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي إلى الرسل عليهم البسلام بعد ما قيل لهم ما قيل: {رَّبُّهُمْ} مالك أمرهم سبحانه: {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} أي المشركين المتناهين في الظلم وهم أولئك القائلون، وقال ابن عطية: خص سبحانه الظالمين من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة ناس فالتوعد باهلاك من خلص للظلم، و: {أوحى} يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له: {ولنهلكن} على إضمار القول أي قائلًا لنهلكن، ويحتمل أن يكون جاريًا مجرى القول لكونه ضربًا منه: {ولنهلكن} مفعوله.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض}
أي أرضهم وديارهم، فاللام للعهد وعند بعض عوض عن المضاف إليه: {مّن بَعْدِهِمْ} أي من بعد اهلاكهم، وأقسم سبحانه وتعالى في مقابلة قسمهم، والظاهر أن ما أقسم عليه جل وعلا عقوبة لهم على قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم: 13] وفي ذلك دلالة على مزيد سناعة ما أتوا به حيث أنهم لما أرادوا إخراج المخاطبين من ديارهم جعل عقوبته إخراجهم من دار الدنيا وتوريث أولئك أرضهم وديارهم، وفي الحديث «من آذى جاره أورثه الله تعالى داره» وقرأ أبو حيوة: {ليهلكن الضالمين} [إبراهيم: 13]: {وليسكننكم الأرض} بياء الغيبة اعتبارًا لأوحى كقولك: أقسم زيد ليخرجن: {ذلك} اشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المخاطبين ديارهم، وبذلك الاعتبار وحد اسم الإشارة مع أن المشار إليه إثنان فلا حاجة إلى جعله من قبيل: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] وان صح أي ذلك الأمر محقق ثابت.
{لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي موقفي الذي يقف به العباد بين يدي للحساب يوم القيامة، وإلى هذا ذهب الزجاج فالمقام اسم مكان وإضافته إلى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه، وقال الفراء: هو مصدر ميمي أضيف إلى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه، وقيل: المراد إقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك.
وقيل: لفظ مقام مقحم لأن الخوف من الله تعالى أي لمن خافني: {وَخَافَ وَعِيدِ} أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوف للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف.
والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف، وجوز أن يكون مصدرًا من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار: وفيه استعارة الوعد للإيعاد، والمراد بمن خاف على ما أشير إليه في الكشاف المتقون، ووقوع ذلك إلى آخره بعد: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} موقع: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه: {استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]: {واستفتحوا} أي استنصروا الله تعالى على أعدائهم كقوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا الله تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] والضمير للرسل عليهم السلام كما روي عن قتادة وغيره، والعطف على: {أوحى} ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس.
ومجاهد.
وابن محيصن: {واستفتحوا} بكسر التاء أمرًا للرسل عليهم السلام معطوفًا على: {ليهلكن} [إبراهيم: 13] فهو داخل تحت الموحى، والواو من الحكاية دون المحكى، وقيل: ما قبله لإنشاء الوعد فلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه، وأخر على القراءتين عن قوله تعالى: {لَنُهْلِكَنَّ} [إبراهيم: 13] أو أوحى إليهم على ما الكشف دلالة على أنهم لم يزالوا داعين إلى أن تحقق الموعود من إهلاك الظالمين، وذلك لأن: {لَنُهْلِكَنَّ} [إبراهيم: 13] وعد وإنما حقيقة الإجابة حين الإهلاك، وليس من تفويض الترتب إلى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم.
وقال ابن زيد: الضمير للكفار والعطف حينئذ على: {قَالَ الذين كَفَرُواْ} [إبراهيم: 13] أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش: {عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] وكأنهم لما قوى تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ظنوا أن ما قيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70] وقوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الشعراء: 187] إلى غير ذلك، وقيل: الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا الله تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل، وجعل بعضهم العطف على: {أُوحِىَ} على هذا أيضًا بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري.
{وَخَابَ} أي خسر وهلك: {كُلّ جَبَّارٍ} متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، وقال الراغب: الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم: {عَنِيدٍ} معاند للحق مباه بما عنده، وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيرًا كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع، وذكر أبو عبيدة أن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية، ولذا قال مجاهد: العنيد مجانب الحق، قيل: والوصف الأول: إشارة إلى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني: إلى ذمه باعتبار الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبًا منحرفًا عن الحق، وفي الكلام إيجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمنعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون؛ فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق، هذا إذا كان ضمير: {استفتحوا} للرسل عليهم السلام، وأما إذا كان للكفار فالعطف كما في البحر على: {استفتحوا} أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا، وإنما وضع: {أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} موضع ضميرهم ذمًا لهم وتسجيلًا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة، ويقدر إذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعًا فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد، والخبة على الوجهين بمعنى الحرمان غب الطلب، وفي إسناد الخيبة إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}
أي من قدامه وبين يديه كما قال الزجاج.
والطبري.
وقطرب.
وجماعة، وعلى ذلك قوله:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ** لزوم العصا نحنيي عليها الأصابع

ومعنى كونها قدامه أنه مرصد لها واقف على شفيرها ومبعوث إليها، وقيل: المراد من خلف حياته وبعدها، ومن ذلك.
قوله:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب

وإليه ذهب ابن الأنباري، واستعمال: {وَرَاء} في هذا وذاك بناء على أنها من الأضداد عند أبي عبيدة والأزهري فهي من المشتركات اللفظية عندهما.
وقال جماعة: إنها من المشتركات المعنوية فهي موضوعة لأمر عام صادق على القدام والخلف وهو ما توارى عنك.
وقد تفسر بالزمان مجازًا فيقال: الأمر من ورائك على معنى أنه سيأتيك في المستقيل من أوقاتك: {ويسقى} قيل عطف على متعلق: {مِّن وَرَائِهِ} المقدر، والأكثر على أنه عطف على مقدر جوابًا عن سؤال سائل كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ما يلقى ويسقى: {مِن مَّاء} مخصوص لا كالمياه المعهودة: {صَدِيدٍ} قال مجاهد وقتادة والضحاك هو ما يسيل من أجساد أهل النار، وقال محمد بن كعب والربيع: ما يسيل من فروج الزناة والزواني، وعن عكرمة هو الدم والقيح؛ وأعربه الزمخشري عطف بيان لماء.
وفي إبهامه أولًا ثم بيانه من التهويل ما لا يخفى، وجواز عطف البيان في النكرات مذهب الكوفيين والفارسي، والبصريون لا يرونه وعلى مذهبهم هو بدل من: {مَاء} أن أعتبر جامدًا أو نعت أن أعتبر فيه الاشتقاق من الصد أي المنع من الشرب كأن ذلك الماء لمزيد قبحه مانع عن شربه، وفي البحر قيل: إنه بمعنى مصدود عنه أي لكراهته يصد عنه، وإلى كونه نعتًا ذهب الحوفي وكذا ابن عطية قال: وذلك كما تقول: هذا خاتم حديد، وإطلاق الماء على ذلك ليس بحقيقة وإنما أطلق عليه باعتبار أنه بدله، وقال بعضهم: هو نعت على إسقاط مفيد التشبيه كما تقول مررت برجل أسد، والتقدير مثل صديد وعلى هذا فإطلاق الماء عليه حقيقة، وبالجملة تخيص السقي من هذا الماء بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه.
{يَتَجَرَّعُهُ} جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالًا منه أو استئنافًا. وجوز أبو حيان كونه حالًا من ضمير: {يسقى} [إبراهيم: 16] والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: {يتجرعه} أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي لا يقارب أن يسيغه فضلًا عن الإساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة؛ فإن السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يفيد نفي ما ذكر جميعًا، وقيل: تفعل مطاوع فعل يقال: جرعه فتجرع وقيل: إنه موافق للمجرد أي جرعه كما تقول عدا الشيء وتعداه، وقيل: الإساغة الإدخال في الجوف، والمعنى لا يقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ما قيل في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي ما قاربوا قبل الذبح، وعبر عن ذلك بالإصاغة لما أنها المعهودة في الأشربة.
أخرج أحمد.
والترمذي.
والنسائي.
والحاكم وصححه.
وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: «يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] وقال سبحانه: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل يَشْوِى الوجوه} [الكهف: 29] ويسيغه بضم الياء لأنه يقال: ساغ الشراب وأشاغه غيه وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعديًا أيضًا على ما ذكره أهل اللغة، وجملة: {لاَ يَكَادُونَ} إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعًا: {وَيَأْتِيهِ الموت} أي أسبابه من الشدائد أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف: {مّن كُلّ مَكَانٍ} أي من كل موضع، والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره وروى نحو ذلك عن ميمون بن مهران.